فصل: تفسير الآيات (123- 140):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (123- 140):

{كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)}.
التفسير:
وآية أخرى من آيات اللّه هي في هذا الصراع الذي كان بين هود عليه السلام، وبين قومه. إن قوم هود على شاكلة قوم نوح.. سواء بسواء.. فهل يجد فيها المشركون عبرة لهم؟.
{إن هودا} يدعوهم إلى اللّه، وإلى أن يستقيموا على طريقه المستقيم، وهو في هذا الذي يدعوهم إليه، لا يريد إلّا الخير لهم، والنجاة لأنفسهم، من عذاب اللّه.. وليس له أجر على هذا، يقتضيه منهم، وإنما أجره على ربّه، الذي حمّله رسالته تلك.. إنه الطبيب الذي يكشف لهم عللهم وأدواءهم، ويقدّم لهم الدواء الذي إن قبلوه وتعاطوه، كان فيه شفاؤهم وسلامتهم.
وإن الداء المتمكن منهم، هو تكالبهم على الدنيا، واستعبادهم لزخارفها، دون أن يكون لهم نظر إلى ما وراء هذه الحياة.
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}؟ الرّيع: المكان المرتفع، وواحده ربعة.
فهذا هو بعض ما يشغلهم في دنياهم.. الافتنان في بناء مجالس ألهو والسّمر، والإبداع في تصويرها ونقشها، وجلب كلّ غريب نفيس إليها.. حتى لتبدو كأنها آية في الحسن والجمال.. ومن شأن الآيات أن تثير العقل، وتغذّى الوجدان، وتعلو بالنفس عن مدارج الأرض إلى معارج السماء! ولكن تلك الآيات، التي يبدعها القوم، هي آيات لاهية عابثة، تعلو بحيوانية الإنسان على آدميته، وتنتصر لجسده على روحه! {وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}.
؟
المصانع: الأمكنة الجيدة الصنع، وهي التي للإنسان فيها تقدير وتدبير، كما يقال: صُنْعَ اللَّهِ.
ويقال: رجل صنع، أي حاذق الصنعة جيّدها، وامرأة صناع.. والصنيعة: ما يصنع من خير للغير.
وهذا وجه آخر من الوجوه التي يصرف القوم فيها جهدهم، وهو أنهم يجوّدون في صناعة منازلهم وأمتعتهم، وأدوات ركوبهم.. حتى لكأنهم خالدون في هذه الدنيا، لا يموتون أبدا.. فليتهم إذ أجادوا الصنعة وأحسنوا العمل فيما هو لدنياهم- أن يجيدوا بعض الإجادة، ويحسنوا بعض الإحسان، لما بعد هذه الحياة الفانية.
{وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}.
فقد كان القوم على بسطة خارقة في الجسم، ومع هذه البسطة الخارقة في الجسم قوة طاغية في الحرب والقتال.. وتلك نعمة أساءوا استعمالها، فاستبدّوا بمن حولهم، وأزعجوا أمّن جيرانهم، بغيا وعدوانا في غير رحمة.
فكانوا أشبه بالوحوش الكاسرة، تقتل كل ما يقع ليدها من حيوان أو إنسان، في حال جوعها وشبعها على السّواء.. إنها تغذّى طبيعة الافتراس على أية حال.. وشأن القوم مع هذه العظات، شأن كل غويّ ضال، قد استبدّ به ضلاله، فلم ير إلا ما يراه، وهو الأعمى الذي لا يرى إلا ظلاما وأوهاما.
يلقاهم الداعي الكريم بهذا النذير: {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فيلقونه بهذا الرد الهازئ الساخر.
{سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ}!! إننا لا نسمع لك قولا، ولا نقبل منك رأيا.
{إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ}.
أي فما هذا الذي تحدث به إلا أكاذيب وأضاليل، تحدّث بها أناس قبلك، وتوعدوا الناس بالعذاب، فلم يقع شيء مما تحدثوا به.
{وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} إن كان هناك حقا عذاب. فنحن أقوى الناس قوة، وأعزهم مكانا، وأمنعهم سلطانا- فكيف نعذب؟ إنما يعذب هؤلاء الضعفاء، الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم الأيدى التي تمتد إليهم بأذى!.. ذلك ظن من غرهم ما أنعم اللّه به عليهم من نعم، فاستكبروا، وعتوا، وقالوا ما قال صاحب الجنتين لصاحبه: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} [35- 36: الكهف].

.تفسير الآيات (141- 159):

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)}.
التفسير:
وتلك آية أخرى.. في هذا الموقف الذي كان بين نبي اللّه صالح عليه السلام، وبين قومه ثمود! {وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [101: يونس] وفي سورة هود عرض لهذه القصة، في معرض قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى.
والعرض الذي جاء هنا، هو مماثل في مضمونه للعرض الذي جاء في سورة هود، كما هو مماثل للمعارض التي جاءت في مواضع أخرى من القرآن، والتي تختلف بسطا وقبضا- ومع هذا، فإن في كل معرض دلالة جديدة، هي في معرضها روح يسرى في كيان الحدث كله، فإذا انضمت إلى غيرها، امتزجت بالروح الساري هناك، كما ينضم النور إلى النور، فتتسع رقعة الضوء، ولا تتغير صفته، أو كما تجتمع قطرات المطر بعضها إلى بعض، فيكثر كمها، والماء، هو الماء، صفاء، ونقاء، وطهرا.
وقد عرضنا لهذا في مبحثنا: التكرار في القصص القرآنى وعرضنا نموذجا للتكرار الذي جاء في قصة موسى: ورأينا كيف كان هذا التكرار مجسّما للأحداث، محركا لها، كاشفا عن ظاهرها وباطنها جميعا.. وهذا ما نجده في كل تكرار جاء في القصص القرآنى، أو في غيره من الموضوعات التي عنى القرآن الكريم بإبرازها، في جميع وجوهها.. وهذا ما سنراه في قصة صالح، إذا نحن جمعنا للواضع التي ورد فيها ذكر من هذه القصة.
هذا، ويلاحظ التشابه القوى بين مواقف الأقوام من رسلهم، على اختلاف أزمانهم وأوطانهم.. إن رسلهم عندهم بموضع تهمة.. فهذا ساحر، أو مسحور، وهذا شاعر أو مجنون، وذك دعى يتلقى من غيره ما يحدّث الناس به.. إلى غير ذلك، مما يرمونهم به، من بذيء القول، وسفيه الحديث.
كما يلاحظ الشبه الكبير بين قوم عاد، وقوم ثمود.. من حيث فراهة الأجسام وقوة البناء. وذلك مما يقوم شاهدا على أنهم كانوا على قرابة قريبة في النسب والجوار.
ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ}: أي داخل بعضه في بعض، كأنما شدخ، والطلع من النخلة أول ما يبدو من ثمرها، وهو حين تزهر، فيخرج منها الطلع على هيئة كيزان، تتشقق جوانبه، وتتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه.
وقوله سبحانه: {بُيُوتاً فارِهِينَ} أي حاذقين في صناعتها ونحتها وقوله سبحانه: {مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي ممن أصابهم السحر، ومسمم أثره.
وقوله جل شأن: {هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ}: أي مورد، تشرب منه في يوم معين لها.
وقوله تعالى: {فَعَقَرُوها} أي ذبحوها.

.تفسير الآيات (160- 175):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)}.
التفسير:
ولا تختلف قصة لوط مع قومه، عن قصة كل نبى سبقه، أو جاء بعده مع قومه.. إنه داعية يدعو باسم ربه إلى خير، وإلى هدى، وقومه- إلا قليلا منهم- يتصدون له، ويقفون في وجه دعوته، مهددين، متوعدين، بالهلاك، أو الطرد من الديار.
وإذا كان ثمة اختلاف بين قوم وقوم، فهو في نوع الداء المتمكن منهم، والذي يتسط عليهم، ويحكم تصرفاتهم في الحياة.. فهم- أي الأقوام جميعا يحملون في كيانهم عللا نفسية، وأمراضا روحية، وعقلية، ولكنّ لكل قوم داءهم الغالب عليهم، وعلتهم المتمكنة منهم، إلى جانب العلة الغليظة المشتركة بينهم، وهي الكفر أو الشرك باللّه.
والداء المتمكن من قوم لوط إلى جانب الكفر باللّه، هو هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ويأتونه جهرة من غير حياء أو خجل، وكانوا في ذلك أول من حمل هذا الداء، الذي تفشّى في الناس فيما بعد، كما تتفشى الأمراض الجسدية، التي تظهر في الناس زمنا بعد زمن.. وفي هذا يقول اللّه تعالى على لسان لوط، مخاطبا إيّاهم بهذا القول: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} [80: الأعراف] ومن مفردات هذه الآيات: قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ} أي أتتصلون بالذكور، من بين العالمين، وبهذا تكونون أول من يذيع هذه الفاحشة في المجتمع الإنسانى! وقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ}.
عادون: جمع عاد، وفعله: عدا يعدو عدوانا، والعدوان: مجاوزة الحد، والخروج عن الطريق القويم.
وقوله سبحانه: {قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ}.
القالي: المجانب للشيء الكاره له.
وقوله تعالى: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ}.
! العجوز: هي امرأة لوط، فقد كانت من المخالفين للوط، فأهلكها اللّه بما أهلك به القوم.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} [33: العنكبوت].
والغابرون: أي الماضون، الذي هلكوا.
وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً} المطر هنا، هو ما رماهم اللّه سبحانه وتعالى به من حجارة. أتت على القوم، وعلى ديارهم جميعا.. كما يقول سبحانه {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [82- 83: هود].. ولهذا وصفه اللّه سبحانه وتعالى بقوله:
{فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}.
أي أنه مطر يسوء من يحلّ به، ويقع عليه، وليس هو المطر الذي ينزل بالخصب والخير.. ونسبة السوء إلى المطر.. لأنه هكذا كان مطلعه عليهم، وأثره فيهم.

.تفسير الآيات (176- 191):

{كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}.
التفسير:
والداء الذي تمكّن من قوم شعيب، وتسلط على سلوكهم في الحياة، إلى جانب الداء الغليظ، وهو الكفر- هذا الداء، هو التلاعب بالمكاييل والموازين، والتعدّى على حقوق الغير بهذه السرقة الخفية، وخيانة الأمانة في الكيل والوزن.
ومع من هذا العدوان؟ إنه مع بعضهم.. فكل منهم يخون صاحبه.
فهذا يخسر الكيل وينقص الميزان مع غيره إذا كال له، أو وزن.. ثم هو يلقى نفس العمل إذا كيل له أو وزن له.. إنه يسرق، ويسرق.. وتلك حال لا ينتظم بها أمر مجتمع، ولا تقوم عليها صلة مودة، وإخاء، بين الناس والناس.
فكل منهم على اتهام لكل الناس، وعلى عداوة لكل من يتعامل معه.
آخذا أو معطيا.
ولا يلقى شعيب من قومه- إذ يدعوهم إلى التي هي أحسن- لا يلقى منهم إلا التهديد والتكذيب، وإلا السّفه والتطاول، وإلا التحدي بنزول العذاب عليهم، إن كان صادقا.. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
وقد سقط عليهم العذاب الذي طلبوه.. فهلكوا به! ومن مفردات هذه الآيات:
قوله تعالى: {أَصْحابُ الْأَيْكَةِ} الأيكة: الأرض ذات الشجر الكثير الكثيف، وكان أصحابها من أرض مدين بالشام.
وقوله تعالى: {بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ}: الميزان المعتدل، القائم على الحق.
وقوله سبحانه: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}: الخلق الذين كانوا قبلهم.
وقوله تعالى: {كِسَفاً مِنَ السَّماءِ}: أي قطعا تنزل من السماء، من حجارة أو نحوها.
وقوله سبحانه {عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}.
الظلة ما أظلهم وأطبق عليهم في هذا اليوم من عذاب اللّه.
هذا، ويلاحظ أنه لم يقترن شعيب بالوصف الذي وصف به الأنبياء، بأنه أخو القوم، فقد جاء النظم القرآنى هكذا: {إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}.
ولم يجئ على هذا النظم: {إذ قال لهم أخوهم شعيب}.
وليس هناك من سبب- واللّه أعلم- إلا البعد عن الرتابة، والتكرار، الذي يخلو من الفائدة، التي تلازم دائما كل تكرار جاء في النظم القرآنى.
فقد ذكر في غير موضع أن شعيبا، هو من القوم وهو بهذا أخ لهم، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} [84: هود].
وفي قوله سبحانه: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً} [85: الأعراف].
وملاحظة أخرى في التعقيب الذي لزم كل قصة من هذه القصص جميعا، بلا استثناء، وهوقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
ففى كل قصة من هذه القصص، آية، فيها مزدجر لمن سيقت فيهم القصة ولمن يأتى بعدهم.. ولكن لم يكن في هذه الآية ولا في الآيات التي تلتها، ما يفتح هذه العقول المغلقة، ولا ما يهدى هذه العيون العمى.. فأبى أكثر الناس إلا كفورا.. وقليل هم أولئك الذين نفعتهم هذه الآيات، وأغنتهم تلك النذر، فآمنوا، واهتدوا، ونجوا من بلاء الدنيا، وعذاب الآخرة.
أما التعقيب على القصص بقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
فإن وصف اللّه سبحانه وتعالى بالعزة، يكشف عما للّه سبحانه وتعالى من سلطان قاهر عزيز، بحيث يأخذ بناصية كل من يخرج عن سلطانه، ويكذب رسله.. ولكن مع هذه العزة القاهرة، رحمة الرحيم، الذي أمهل الظالمين، ومدّ لهم في العمر، وبسط لهم في الرزق، ولو أخذهم بذنوبهم لحرمهم شربة الماء، ونفس الهواء.